ما أجمل العيش من دون ثقافة | فصل

«ما أجمل العيش من دون ثقافة»، للكاتب والناقد الإسبانيّ ثيسار أنطونيو مولينا (2022)

 

صَدَر حديثًا عن «منشورات تكوين»، الكويت، كتاب «ما أجمل العيش من دون ثقافة»، للكاتب والناقد الإسبانيّ ثيسار أنطونيو مولينا، من ترجمة حسني مليطات.

وقد جاء في كلمة الناشر: "يغيّر العالم الرقميّ، التقنيّات الجديدة، وشبكات التواصل الاجتماعيّ، من حياتنا اليوميّة، ما ينعكس على مجالات حيويّة مثل التعليم، العمل، والعلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة. عزّزت هذه التحوّلات من شعورنا بالتقييد والمراقبة، وحفّزت رغبتنا في الاستهلاك، ممّا أدّى إلى تنامي الحالة الانعزاليّة، وصعوبة تشكيل وجهة نظر حيال أيّ قضيّة. نحن مدمنون على هذه التكنولوجيا، ونشعر بالكرب والارتباط عندما ننفصل عن تيّار المحفّزات المتدفّق عبر الشاشات".

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الكتاب بالتعاون مع المترجم.  

 


 

ما أجمل أن تعيش كغبيٍّ في عصر الرقمنة!

إنّها شهادة حقّ لصالح القراءة، وقبل كلّ شيء، لصالح الورق نفسه. لا تُظهر الوسائط التكنولوجية الجديدة الحالات اللازمة، حتى يجري ذلك في صمت وتركيز، بعيدًا عن التدخّلات المتعدّدة المُقدّمة بواسطة أجهزة الحاسوب الإلكترونيّة. إنّ بُنية الكتاب الورقيّ خطّيّة تمامًا، ولا تُضيع القارئ على الإطلاق. أمّا القراءة الرقميّة فمليئة بالكمائن، وينبغي أن تعدّ خارطة ذهنيّة لها حتّى لا تضيع. وإذا قُصِدَ بالقراءة عزل النفس، والصمت بهدف التعمّق والتأمّل، فإنّ الأجهزة الإلكترونيّة الجديدة لن تساعدنا؛ لأنّها مُحمّلة بتطبيقات هائلة لا حصر لها، وكلّها مُسليّة.

 

ضدّ الاستعمار الرقميّ 

 يُطلق كاساتي في كتابه «ضدّ الاستعمار الرقميّ»، نداءً لصالح مدرسة متحرّرة من كلّ تلك العناصر الموجودة في الحياة اليوميّة للطالب. وذلك بالدفاع عن أهمّيّة الحضور الوجاهيّ للمُدرّس داخل القاعة، أمام المُدرس الرقميّ أو المرئيّ. إنّه الدفاع عن العلم والمعرفة، مقابل الحصول على المعلومة. تُعتبر المدرسة الفضاء الحرّ للتكنولوجيا، ويظهر ذلك، على الأقلّ، في قاعات التدريس. تجدر الإشارة إلى أنّه يمكن وينبغي استخدام هذه التكنولوجيا خارج تلك القاعات، حتّى تكون على تواصل دائم مع الطلبة. يستخدم المدرّسون الإنترنت كثيرًا في دروسنا، وفي التواصل مع طلبتنا، لكن خارج قاعة التدريس. إذ تُعتبر قاعة التدريس العلاقة المباشرة بين المُدرّس والطالب، دون وجود وسطاء بينهما، وأنّ تلك الأدوات الّتي يستخدمونها لا تخدم شيئًا لتكون بديلًا عن المُدرّس نفسه. يرسل المُدرّس مادّة التدريس، وقائمة المصادر والمراجع، ويتلقّى أسئلة مختلفة، وفي هذه الحالة، هو يُعطي أفكارًا، ولكن خارج قاعة التدريس.

القراءة الرقميّة فمليئة بالكمائن، وينبغي أن تعدّ خارطة ذهنيّة لها حتّى لا تضيع. وإذا قُصِدَ بالقراءة عزل النفس (...) فإنّ الأجهزة الإلكترونيّة الجديدة لن تساعدنا...

علينا أن نُحارب الفرضيّة القائلة بأنّه ينبغي على المدرسة أن تنسجم مع تطوّر المجتمع. ناقش ذلك روبيرتو كاساتي، وأنا أؤيّد ما ذهب إليه. ينبغي على المدرسة أن تساعد المجتمع على فهم إذا كانت إحدى مساراته التنمويّة إلزاميّة؛ فالقوّة الحقيقيّة للمدرسة لا تتمثّل في أنّها لا تعرف الانسجام، وإنّما في القدرة على إنشاء مناطق من الهدوء والطمأنينة، حتّى يمكن من خلالها ملاحظة تطوّر المجتمع بتأنٍّ. لا يُمكن للمدرسة أن تنافس شبكة الإنترنت، بل ينبغي عليها أن تُظهر أشياء جديدة ومختلفة: أن تُظهر معرفة أكثر، وتعمّقًا فيها هي نفسها. وإذا كانت القراءة ما تزال ضروريّة، فإنّ الكتابة بخطّ اليد هي الطريقة الأساسيّة في التفكير، والخطوة المتقدّمة للكتابة على الآلة الكاتبة، وعلى التقنيات الجديدة الّتي لا يزال هناك إمكانيّة لاختراعها في المستقبل القريب.

وجود اختراعات مثل ’الآيباد‘ لا يعني أنّها نشأت لجعل الكتاب أحد أهدافها الرئيسيّة، وإنّما يعتبر وجوده خيارًا إضافيًّا، وفعل القراءة ليس شيئًا أساسيًّا فيه. كل الواصلات الّتي تظهر خلال القراءة لا تُساعد في الحفاظ على أهمّيّة تلك القراءة، وإنّما تساعد على الابتعاد عنها، وبالتالي، لا يمكن أن تتحقّق من كلّ شيء يجري الحديث عنه في السرد دون فقدان خيط القراءة نفسها.

 

من الملل ومن الدرسة

لم ينشأ ’الآيباد‘ حتّى يُشبع تلك الحاجات المستعجلة، وقبل كلّ شيء، حتّى يُنشئ، وبشكل مستمرّ، احتياجات أخرى جديدة، يقول كاساتي: "إنّه ليس مجرّد جهاز حاسوب في حدّ ذاته، وإنّما هو الحلقة الأخيرة من سلسلة توزيع هائلة، وذلك باعتباره واجهة العرض". يوجد فصل من كتاب أندريه كونت-سبونفيل «ما لا عزاء له وارتجالات أخرى»، عنوانه «من الملل ومن المدرسة»، يشير فيه الفيلسوف الفرنسيّ إلى خطأ الرغبة في إنشاء «علم أصول التدريس» على أساس المتعة أو التسلية؛ فالمُدرّس لا يستطيع، ولا ينبغي عليه حتّى أن ينافس التلفاز، والكرة، والألعاب الإلكترونيّة. لا يتعلّق الأمر بتسلية الطلبة، وإنّما بتعليمهم، فهذا هو واجب المُدرّس، في حين أنّ التعلّم واجب الطالب. "المعلّم ليس موجودًا هناك حتّى يُشجّع الانتظار، وإنّما للفت الانتباه. وليس من أجل خلق الرغبة، وإنّما لتوجيه الإرادة. وليس من أجل الإغواء، بل من أجل الإرشاد"، يؤكّد الفيلسوف والأستاذ الفرنسيّ.

تُعتبر العائلة، والتعليم، والدولة، من الركائز الأساسيّة لتنمية القراءة، وبالتالي، لا بدّ من الدفاع عن نفس العادات الّتي جرى العمل بها خلال قرون. يعي المجتمع خطورة هذه الخسارة، لكنّ مصالح الصناعات التكنولوجيّة لا تتوافق مع هذه القيم، لذلك، ينبغي على الدولة، من خلال المدرسة والجامعة، أن تشجّع، وتحسّن، وتسهّل قراءة الكتب. وفي المدارس، لا بدّ من توضيح لماذا علينا أن نقرأ، وكيف نقوم بقراءة مُرضية، وما هي الكتب المؤسِّسة لكلّ فئة عمريّة. يجب على المدرسة أن تُساعد على هدم الآراء المعارضة للقراءة، والعمل على تسهيلها بعد ذلك، ونشر تعاليمها الأساسيّة على النطاق الجامعيّ والعائليّ. لا بدّ من إضفاء الطابع المؤسّساتيّ على القراءة. ومن المهمّ الاستمرار في تطوير شبكة المكتبات المدرسيّة والجامعيّة والبلديّة والأميريّة، والعمل، من خلالها، على أنشطة ثقافية.

المُدرّس لا يستطيع، ولا ينبغي عليه حتّى أن ينافس التلفاز، والكرة، والألعاب الإلكترونيّة. لا يتعلّق الأمر بتسلية الطلبة، وإنّما بتعليمهم....

كما هو بيّن، فإنّه لا ينبغي إهمال مستوى دعم التقنيات الجديدة، بل لا بدّ أن يكون حاضرًا، لكن بمعرفة ما هو دور كلّ مستوى من هذه المستويات. إنّ القراءة، قبل كلّ شيء، هي معرفة ’كيفيّة‘ التفسير. والقراءة العميقة، التأمّليّة، هي إحدى ثروات المجتمع المعاصر، فعلى المجتمع نفسه أن يدافع عنها.

 

الورق ضدّ الرقميّ 

لا ينبغي القيام بعمليّة التصويت عبر الإنترنت، وتحديدًا في زمن الجائحة الّذي نعيشه؛ لأنه لا يوجد حتّى الآن نظام أمان مقنع؛ فعبر النظام الإلكترونيّ ستزداد المشاركة بكلّ تأكيد، لكن لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أنّ جودة النظام الانتخابيّ ما زالت هي الأكثر أهمّيّة. يمكن اليوم أن نشجّع هذه المشاركة، ولكن مَنْ يدري إذا ما كُنّا سنشجّعها غدًا. فحتّى مبادئ التصويت نفسها يمكن أن تُدمّر. إنّ التلاعب والاحتيال في شبكة الإنترنت سيخلخل النظام الديمقراطيّ، بالإضافة إلى أنّه سيكون من الصعب جدًّا الحفاظ على خصوصيّة الناخب، الّذي يُعتبر العنصر الرئيسيّ لتحقيق العمليّة الديمقراطيّة.

لكن، هل ما يُقال عن الإنترنت صحيح؟ وهل نستطيع أن نثق بكلّ ما هو موجود على شبكة الإنترنت؟ حتّى الآن، لا، إذ لم يتحكّم بكلّ شيء بَعْدُ؛ فالورق ما زال يحتفظ بمكانته وموثوقيّته. وهذا ما يجعله قويًّا أمام ما هو رقميّ. ينبغي علينا أن نحارب، من أجل الحقيقة والشرعيّة والاحترام، الشبكة العنكبوتية، وأن نطرد منها كلّ أولئك الّذين يستخدمونها لمصالحهم الحزبيّة فقط. أن نحارب ضدّ السذاجة الرقميّة، وليس ضدّ التقنيات الجديدة؛ فهذه الأخيرة، ينبغي أن تستمرّ في مساعدتنا، وفي تطوير أنفسنا، دون أن نضطرّ إلى الاستغناء عن أفضل عاداتنا ومصادر معرفتنا.

 


 

ثيسار أنطونيو مولينا

 

 

 

وُلِدَ في إسبانيا عام 1952، دَرَسَ القانون في المرحلة الأولى من تعليمه، وأكمل دراساته العليا في الأدب، وعَمِلَ أستاذًا للنظريّة النقديّة والأدبيّة في عدّة جامعات.